مَصَادِرُ الِاجْتِهَادِ :
39 - بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ جَمِيعًا
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ
مَصْدَرَ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مِنْهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ .
وَالْوَحْيُ إِمَّا مَتْلُوٌّ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ، أَوْ
غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَهُوَ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ ،
فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَتِهِ رَسُولًا ، لَا
يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى .
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَصَادِرَ الْأَحْكَامِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِصِفَةٍ مُبَاشِرَةٍ .
أَمَّا الْإِجْمَاعُ - إِذَا تَحَقَّقَ - فَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ حُكْمِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ
عَلَى ضَلَالَةٍ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ - فَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ
حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ، وَهَذَا الظَّنُّ كَافٍ
فِي الِاحْتِجَاجِ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ ،
سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَعَدَّدُ أَمْ قُلْنَا بِغَيْرِ
ذَلِكَ .
-
ص
44
- وَسَيَتَبَيَّنُ لَنَا مِنْ الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ تَوْضِيحُ ذَلِكَ
بِالتَّفْصِيلِ ، إِلَّا أَنَّنَا سَنَتَنَاوَلُ مَسْأَلَتَيْنِ
عَاجِلَتَيْنِ كَثُرَ الْحَدِيثُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ .
أ - الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : حَوْلَ السُّنَّةِ
40 - أَثَارَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ
مَصْدَرًا لِلتَّشْرِيعِ ، وَسَمُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقُرْآنِيِّينَ ،
وَقَالُوا : إِنَّ أَمَامَنَا الْقُرْآنَ ، نُحِلُّ حَلَالَهُ وَنُحَرِّمُ
حَرَامَهُ ، وَالسُّنَّةُ كَمَا يَزْعُمُونَ قَدْ دُسَّ فِيهَا أَحَادِيثُ
مَكْذُوبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَؤُلَاءِ امْتِدَادٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ نَبَّأَنَا عَنْهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَدْ رَوَى
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ
الْمِقْدَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «
يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ
بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ
اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا
وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ
رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ »
وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِقُرْآنِيِّينَ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ
الْكَرِيمَ أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ مِائَةِ
آيَةٍ ، وَاعْتَبَرَ طَاعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا )
بَلْ إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ الَّذِي يَدَّعُونَ التَّمَسُّكَ بِهِ
نَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ رَفَضَ طَاعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْبَلْ حُكْمَهُ : (
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
. وَقَوْلُهُمْ : إِنَّ السُّنَّةَ قَدْ دُسَّتْ فِيهَا أَحَادِيثُ
مَوْضُوعَةٌ مَرْدُودٌ بِأَنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُنُوا أَشَدَّ
الْعِنَايَةِ بِتَنْقِيَةِ السُّنَّةِ مِنْ كُلِّ دَخِيلٍ ، وَاعْتَبَرُوا
الشَّكَّ فِي صِدْقِ رَاوٍ مِنْ الرُّوَاةِ أَوِ احْتِمَالَ سَهْوِهِ
رَادًّا لِلْحَدِيثِ .
وَقَدْ شَهِدَ أَعْدَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَاكَ
أُمَّةٌ عُنِيَتْ بِالسَّنَدِ وَبِتَنْقِيحِ الْأَخْبَارِ وَلَا سِيَّمَا
الْمَرْوِيَّةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كَهَذِهِ الْأُمَّةِ .
-
ص
45
- وَيَكْفِي لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ غَلَبَةُ الظَّنِّ
بِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتَفِي
بِإِبْلَاغِ دَعْوَتِهِ بِإِرْسَالِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، مِمَّا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ
صِدْقُهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ .
ثُمَّ نَسْأَلُ هَؤُلَاءِ : أَيْنَ هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ
عَلَى كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ ، وَعَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ
خَمْسٌ ، وَعَلَى أَنْصِبَةِ الزَّكَاةِ ، وَعَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ ،
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا
إِلَّا مِنْ السُّنَّةِ .
وَهُنَاكَ فِرْقَةٌ أُخْرَى لَا تَقِلُّ خَطَرًا عَنْ هَذِهِ
الْفِرْقَةِ تَقُولُ : إِنَّنَا نَقْبَلُ السُّنَّةَ كَمَصْدَرٍ
تَشْرِيعِيٍّ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعِبَادَاتِ ، أَمَّا مَا يَتَّصِلُ
بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ تَشْرِيعَاتٍ أَوْ سُلُوكٍ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ
عَلَيْنَا ، وَيَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَاهِيَةٍ ، وَهِيَ حَادِثَةُ
تَأْبِيرِ النَّخْلِ ، وَحَاصِلُهَا «
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَمَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَأَى أَهْلَهَا يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ أَيْ يُلَقِّحُونَ إِنَاثَ
النَّخْلِ بِطَلْعِ ذُكُورِهَا ، فَقَالَ لَهُمْ : لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا
لَصَلَحَ ، فَتَرَكُوهُ فَشَاصَ ؛ أَيْ فَسَدَ وَصَارَ حَمْلُهُ شِيصًا
وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ ؟
قَالُوا : قُلْتَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ
دُنْيَاكُمْ
» .
هَذَا الْخَبَرُ إِنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لَا صِلَةَ لَهَا
بِالتَّشْرِيعِ تَحْلِيلًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا ،
بَلْ هِيَ مِنْ الْأُمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ ، لَا تَدْخُلُ تَحْتَ
مُهِمَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمُبَلِّغٍ عَنْ
رَبِّهِ ، بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ
الْأُمُورِ خَاضِعَةٌ لِلتَّجْرِبَةِ ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا كَانَ قُدْوَةً عَمَلِيَّةً لِحَثِّنَا عَلَى
أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْبَحْتَةَ الَّتِي لَا عَلَاقَةَ
لَهَا بِالتَّشْرِيعِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ الْجَهْدَ فِي
مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِ
-
ص
46
- الْحَادِثَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَنْ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ ،
أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ ،
أَوْ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ
هَذِهِ الصُّوَرَ مِنْ صُلْبِ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ فِي
كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ .
ب - الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
41 - تُثَارُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْفَيْنَةِ
دَعْوَى الِاعْتِمَادِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي
تَشْرِيعَاتِنَا بِحُجَّةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ
إِنَّمَا جَاءَتْ لِخَيْرِ الْبَشَرِيَّةِ ، فَمَا كَانَ خَيْرًا
أَخَذْنَا بِهِ ، وَمَا كَانَ شَرًّا أَعْرَضْنَا عَنْهُ . وَهَذِهِ
كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ، فَإِنَّ التَّشْرِيعَ
الْإِسْلَامِيَّ - جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا ، عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ -
إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَصْلَحَةُ الْبَشَرِ . وَلَكِنْ مَا هِيَ هَذِهِ
الْمَصْلَحَةُ ؟ أَهِيَ مُسَايَرَةُ الْأَهْوَاءِ وَتَرْضِيَةُ النُّفُوسِ
الْجَامِحَةِ ؟ أَمْ هِيَ الْمَصْلَحَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي
يَسْتَقِيمُ عَلَيْهَا أَمْرُ النَّاسِ ؟ ثُمَّ مَا السَّبِيلُ إِلَى
التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْهُومَةِ وَالْمَصْلَحَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ ؟
وَطَبَائِعُ النَّاسِ كَمَا نَعْلَمُ وَنُشَاهِدُ مُخْتَلِفَةٌ ، فَمَا
يُحِبُّهُ هَذَا يَكْرَهُهُ ذَاكَ ، وَمَا يَكْرَهُهُ ذَاكَ يُحِبُّهُ
هَذَا ، وَالْمُحِبُّ لَا يَرَى فِيمَا أَحَبَّ إِلَّا جَانِبَ الْخَيْرِ
وَالْمَصْلَحَةِ ، وَالْكَارِهُ لَا يَرَى فِيمَا يَكْرَهُ إِلَّا جَانِبَ
الشَّرِّ وَالضُّرِّ .
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ، كَمَا أَنَّ عَيْنَ
السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا ، وَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَخْتَلِطَ الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا ، فَتَرْجِيحُ مَصْلَحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةٍ ، أَوْ مَفْسَدَةٍ
عَلَى مَفْسَدَةٍ ، أَوْ مُقَارَنَةُ الْمَفَاسِدِ بِالْمَصَالِحِ
وَتَرْجِيحُ إِحْدَاهَا عَلَى الْأُخْرَى ، كُلُّ ذَلِكَ يَتَطَلَّبُ أَنْ
يَكُونَ الْمَصْدَرُ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَتَنَزَّهُ عَنْ الْأَهْوَاءِ
وَالْأَغْرَاضِ ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، لِأَنَّهُ
الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ ، وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ لِعِبَادِهِ
الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ .
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الْمَصَالِحَ ثَلَاثٌ :
مَصْلَحَةٌ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ بِرَغْمِ مَا قَدْ يَخْتَلِطُ بِهَا
مِنْ بَعْضِ الْأَضْرَارِ الْبَسِيطَةِ ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا
أَرْجَحُ ، كَالْمَصْلَحَةِ فِي الصَّوْمِ
-
ص
47
- مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ الْمَشَاقِّ ،
وَالْمَصْلَحَةِ فِي الْجِهَادِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ
وَالْأَرْوَاحِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ .
وَهُنَاكَ مَصَالِحُ أَلْغَاهَا الشَّارِعُ إِلْغَاءً تَامًّا ؛
لِأَنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا ، كَالْمَصْلَحَةِ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )
وَكَالْمَصْلَحَةِ فِي الرِّبَا ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى حَرَّمَهُ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ أَوْ شَكْلٍ مِنْ
أَشْكَالِهِ : (
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ ) .
وَهُنَاكَ مَصَالِحُ سَكَتَ عَنْهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا
وَلَمْ يُلْغِهَا بِخُصُوصِهَا ، فَهَذِهِ الْمَصَالِحُ إِنَّمَا
يُقَدِّرُهَا الْمُخْتَصُّونَ دُونَ غَيْرِهِمْ ، مَعَ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ
حِمَايَتِهِمْ - قَدْرَ الْإِمْكَانِ - مِنْ ذَهَبِ الْمُعِزِّ وَسَيْفِهِ ،
وَأَنْ يَكُونَ الْبَتُّ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ شَأْنِ الْجَمَاعَةِ
لَا الْأَفْرَادِ ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِثْلُ هَذِهِ
الْمَصَالِحِ تَحْتَ التَّجْرِبَةِ ، فَإِنَّ أَمْثَالَهَا تَخْتَلِفُ مِنْ
عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ .