إِقْفَالُ بَابِ الِاجْتِهَادِ :
38 - مَا إِنْ أَهَلَّ الْقَرْنُ السَّادِسِ الْهِجْرِيِّ حَتَّى نَادَى
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ ، وَقَالُوا : لَمْ
يَتْرُكْ الْأَوَائِلُ لِلْأَوَاخِرِ شَيْئًا . وَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ فِي
ذَلِكَ قُصُورَ الْهِمَمِ وَخَرَابَ الذِّمَمِ ، وَتَسَلُّطَ الْحُكَّامِ
الْمُسْتَبِدِّينَ ، وَخَشْيَةَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلِاجْتِهَادِ مَنْ
لَيْسَ أَهْلًا لَهُ ، إِمَّا رَهْبَةً أَوْ رَغْبَةً ، فَسَدًّا
لِلذَّرَائِعِ أَفْتَوْا بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ .
وَتَعَرَّضَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ الْأَوَائِلَ فِي آرَائِهِمْ لِسَخَطِ
الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ يَظْهَرُ
بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْفَيْنَةِ مَنْ ادَّعَى الِاجْتِهَادَ أَوِ
ادُّعِيَ لَهُ ، وَكَانَتْ لَهُمْ اجْتِهَادَاتٌ لَا بَأْسَ بِهَا
كَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذِهِ
ابْنِ الْقَيِّمِ ،
وَالْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ الْحَنَفِيِّ الْمَذْهَبِ . فَقَدْ كَانَتْ لَهُ اجْتِهَادَاتٌ خَرَجَ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ . . . وَمِنْ هَؤُلَاءِ
تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ ، وَأَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ . وَأَيًّا
مَا كَانَ فَقَدْ كَانَ اجْتِهَادُ هَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ تَرْجِيحِ
رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ ، أَوْ حَلٍّ لِمُشْكِلَةٍ عَارِضَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ
لَهَا الْأَئِمَّةُ الْمُتَقَدِّمُونَ .
وَالَّذِي نَدِينُ اللَّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي
الْأُمَّةِ عُلَمَاءُ مُتَخَصِّصُونَ ، عَلَى عِلْمٍ بِكِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَوَاطِنِ الْإِجْمَاعِ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ . كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا
عَلَى خِبْرَةٍ تَامَّةٍ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا
الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ، وَدُوِّنَتْ بِهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ،
وَأَنْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ ، لَا يَخْشَوْنَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ،
لِتَرْجِعَ إِلَيْهِمْ الْأُمَّةُ فِيمَا نَزَلَ بِهَا مِنْ أَحْدَاثٍ ،
وَمَا يَجِدُّ مِنْ نَوَازِلَ ، وَأَلَّا يُفْتَحَ بَابُ الِاجْتِهَادِ
عَلَى مِصْرَاعَيْهِ ، فَيَلِجَ فِيهِ مَنْ لَا يُحْسِنُ قِرَاءَةَ آيَةٍ
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْمُصْحَفِ ، كَمَا لَا يُحْسِنُ أَنْ يَجْمَعَ
بَيْنَ أَشْتَاتِ الْمَوْضُوعِ ، وَيُرَجِّحَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ .
وَالَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِقْفَالِ بَابِ الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا
نَزَعُوا عَنْ خَوْفٍ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ الِاجْتِهَادَ أَمْثَالُ
هَؤُلَاءِ ، وَأَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ، فَيَقُولُونَ
هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ ،
وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِرْضَاءً لِلْحُكَّامِ . وَلَقَدْ رَأَيْنَا
بَعْضَ مَنْ يَدَّعِي الِاجْتِهَادَ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَذَا
وَكَذَا فِيهِ تَرْضِيَةٌ لِهَؤُلَاءِ السَّادَةِ ، فَيَسْبِقُونَهُمْ
-
ص
43
- بِالْقَوْلِ . وَيَعْتَمِدُ هَؤُلَاءِ الْحُكَّامُ عَلَى آرَاءِ
هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ . فَقَدْ رَأَيْنَا فِي عَصْرِنَا هَذَا مَنْ
أَفْتَى بِحِلِّ الرِّبَا الِاسْتِغْلَالِيِّ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِيِّ ،
بَلْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِحِلِّهِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ
- فِي زَعْمِهِ - تُوجِبُ الْأَخْذَ بِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْتَى
بِجَوَازِ الْإِجْهَاضِ ابْتِغَاءَ تَحْدِيدِ النَّسْلِ ، لِأَنَّ بَعْضَ
الْحُكَّامِ يَرَى هَذَا الرَّأْيَ ، وَيُسَمِّيهِ تَنْظِيمَ الْأُسْرَةِ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ لَا تَثْبُتُ إِلَّا
عَلَى مَنْ اعْتَادَ الْجَرِيمَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْحَدِّ ، وَمِنْهُمْ . .
. وَمِنْهُمْ . . . فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ حَمَلُوا أَهْلَ
الْوَرَعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِقْفَالِ بَابِ
الِاجْتِهَادِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : إِنَّ الْقَوْلَ بِحُرْمَةِ الِاجْتِهَادِ
وَإِقْفَالِ بَابِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا لَا يَتَّفِقُ مَعَ
الشَّرِيعَةِ نَصًّا وَرُوحًا ، وَإِنَّمَا الْقَوْلَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ
إِبَاحَتُهُ ، بَلْ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ .
لِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي حَاجَةٍ ، إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا جَدَّ مِنْ أَحْدَاثٍ لَمْ تَقَعْ فِي الْعُصُورِ
الْقَدِيمَةِ .