طَبَقَاتُ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْفُقَهَاءِ :
31 - فِي هَذِهِ الْفِقْرَةِ سَنُبَيِّنُ طَبَقَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ
عَلَى سَبِيلِ السَّرْدِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ ؛ لِأَنَّ بَسْطَ
هَذَا الْمَوْضُوعِ تَكَفَّلَ بِهِ عِلْمُ تَارِيخِ التَّشْرِيعِ وَكُتُبُ
طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ . وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ
إِلَى الطَّبَقَاتِ الْآتِيَةِ :
أ - الْمُجْتَهِدُونَ الْكِبَارُ
وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْمُنْدَثِرَةِ ،
وَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَنْهَجُهُ الْخَاصُّ فِي الِاجْتِهَادِ تَأْصِيلًا
وَتَفْرِيعًا ،
كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ، الَّتِي يَعْتَنِقُهَا
الْكَثْرَةُ الْكَاثِرَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبِهَا . وَكَانَ يُعَاصِرُ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ لَا يَقِلُّونَ
عَنْهُمْ مَنْزِلَةً ، وَإِنْ
-
ص
35
- انْدَثَرَتْ مَذَاهِبُهُمْ
كَالْأَوْزَاعِيِّ بِالشَّامِ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
بِمِصْرَ ،
وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ . . . إِلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ زَخَرَتْ بِهِمْ كُتُبُ الْخِلَافِ وَالتَّفَاسِيرِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ .
ب - الْمُجْتَهِدُونَ الْمُنْتَسِبُونَ
وَهُمْ أَصْحَابُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَتَلَامِيذُهُمْ . وَهُمْ
يَتَّفِقُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ فِي الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ . وَقَدْ
يَخْتَلِفُونَ مَعَهُ فِي التَّفْرِيعِ . وَآرَاؤُهُمْ تُعْتَبَرُ مِنْ
الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ
رَأْيُهُ غَيْرَ مَرْوِيٍّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ
كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ
وَابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ
مَالِكٍ ،
وَكَالْمُزَنِيِّ لِلشَّافِعِيِّ . أَمَّا أَصْحَابُ
أَحْمَدَ فَكَانُوا رُوَاةً فَقَطْ لِأَحَادِيثِهِ وَآرَائِهِ الْفِقْهِيَّةِ
وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي
أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ . وَمِنْهُمْ
أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ .
ج - مُجْتَهِدُو الْمَذَاهِبِ
وَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ مَعَ أَئِمَّتِهِمْ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا
فِي الْفُرُوعِ ، وَلَكِنْ يُخَرِّجُونَ الْمَسَائِلَ الَّتِي لَمْ يَرِدْ
عَنْ الْإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ رَأْيٌ فِيهَا ، مُلْتَزِمِينَ مَنْهَجَ
الْإِمَامِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ . وَرُبَّمَا يُخَالِفُونَ
إِمَامَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِ .
وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ
اخْتِلَافِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ ، وَلَكِنْ لِاخْتِلَافِ
الْعُرْفِ وَالزَّمَانِ ، بِحَيْثُ لَوْ اطَّلَعَ إِمَامُهُمْ عَلَى مَا
اطَّلَعُوا عَلَيْهِ لَذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ
هُمْ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ
وَتَثْبِيتِ قَوَاعِدِهِ وَجَمْعِ شَتَاتِهِ .
د - الْمُجْتَهِدُونَ الْمُرَجِّحُونَ
وَهَؤُلَاءِ مُهِمَّتُهُمْ تَرْجِيحُ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعْضٍ
، مُرَاعِينَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ فِي هَذَا
الْبَابِ ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَعَلُوا هَاتَيْنِ الطَّبَقَتَيْنِ - ج
، د - طَبَقَةً وَاحِدَةً .
هـ - طَبَقَةُ الْمُسْتَدِلِّينَ : وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَنْبِطُونَ
وَلَا يُرَجِّحُونَ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ ، وَلَكِنْ يَسْتَدِلُّونَ
لِلْأَقْوَالِ ، وَيُبَيِّنُونَ مَا اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ ، وَيُوَازِنُونَ
بَيْنَ الْأَدِلَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِلْحُكْمِ ، وَلَا بَيَانٍ
لِمَا هُوَ أَجْدَرُ بِالْعَمَلِ .
وَأَنْتَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ رَأَيْتَ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ لَا تَقِلُّ قَدْرًا عَنْ سَابِقَتَيْهَا ، إِذْ
-
ص
36
- لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ
بِالِاسْتِدْلَالِ لِلْأَحْكَامِ لَا يَنْتَهِي إِلَى تَرْجِيحِ رَأْيٍ
عَلَى رَأْيٍ . وَمِنْ هُنَا فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ
الطَّبَقَاتُ الثَّلَاثُ مُتَدَاخِلَةً .
32 - وَمِمَّنْ عُدُّوا فِي هَذِهِ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ
كَمُجْتَهِدِي مَذْهَبٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ أَوِ
الْمُسْتَدِلِّينَ ، مِنْ الْحَنَفِيَّةِ :
أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ ،
وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ ، وَالْجَصَّاصُ الرَّازِيُّ ،
وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ ،
وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ ،
وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إِلَخْ .
وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ :
أَبُو سَعِيدٍ الْبَرَادِعِيُّ ،
وَاللَّخْمِيُّ ،
وَالْبَاجِيُّ ،
وَابْنُ رُشْدٍ ،
وَالْمَازِرِيُّ ،
وَابْنُ الْحَاجِبِ ،
وَالْقَرَافِيُّ .
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ :
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ ، وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ الشَّاشِيُّ ، وَحُجَّةُ الْإِسْلَامِ
الْغَزَالِيُّ .
وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ :
أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ ،
وَأَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْكَبِيرُ .
وَبِالرُّجُوعِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ نَجِدُ أَنَّ
الْمُؤَرِّخِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِمْ وَفِي طَبَقَاتِهِمْ ،
وَلَكِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ قَدَمُ صِدْقٍ فِي
تَثْبِيتِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَلَهُمْ الْأَثَرُ الْبَعِيدُ فِي
بَقَائِهَا وَتَثْبِيتِ أَرْكَانِهَا .
33 - الْمُقَلِّدُونَ : وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ اجْتِهَادٌ ،
وَإِنَّمَا عَمَلُهُمْ فِي قُوَّةِ النَّقْلِ . وَهُمْ طَبَقَتَانِ :
طَبَقَةُ الْحُفَّاظِ ، وَطَبَقَةُ الِاتِّبَاعِ الْمُجَرَّدِ .
أ - طَبَقَةُ الْحُفَّاظِ :
هُمْ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْمَذْهَبِ
وَرِوَايَاتِهِ ، وَهُمْ حُجَّةٌ فِي النَّقْلِ لَا فِي الِاجْتِهَادِ ،
فَهُمْ حُجَّةٌ فِي نَقْلِ الرِّوَايَاتِ وَبَيَانِ أَوْضَحِهَا ، وَنَقْلِ
أَقْوَى الْآرَاءِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَجِّحُوا . وَيَقُولُ
فِيهِمُ
ابْنُ عَابِدِينَ : وَإِنَّهُمْ الْقَادِرُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَقْوَى
وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ ، وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَظَاهِرِ الْمَذْهَبِ
وَالرِّوَايَةِ النَّادِرَةِ ، كَأَصْحَابِ الْمُتُونِ الْمُعْتَبَرَةِ
كَصَاحِبِ الْكَنْزِ وَصَاحِبِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَصَاحِبِ
الْوِقَايَةِ وَصَاحِبِ الْمَجْمَعِ . وَشَأْنُهُمْ أَلَّا يَنْقُلُوا
فِي كُتُبِهِمْ الْأَقْوَالَ الْمَرْدُودَةَ وَالرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةَ ،
وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ عَمَلُهُمْ التَّرْجِيحَ ،
-
ص
37
- وَلَكِنْ مَعْرِفَةُ دَرَجَاتِ التَّرْجِيحِ
وَتَرْتِيبُهَا عَلَى حَسَبِ مَا قَامَ بِهِ الْمُرَجِّحُونَ ،
وَيَخْتَلِفُونَ حِينَئِذٍ فِي نَقْلِ التَّرْجِيحِ ، فَقَدْ يَنْقُلُ
بَعْضُهُمْ تَرْجِيحَ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ ، وَيَنْقُلُ الْآخَرُ خِلَافَ
ذَلِكَ ، فَيَخْتَارُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُرَجِّحِينَ أَقْوَاهَا
تَرْجِيحًا وَأَكْثَرَهَا اعْتِمَادًا عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ ، أَوْ
مَا يَكُونُ أَكْثَرَ عَدَدًا ، أَوْ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ أَكْثَرَ
حُجِّيَّةً فِي الْمَذْهَبِ .
وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حَقُّ الْإِفْتَاءِ كَالسَّابِقِينَ ، وَلَكِنْ فِي
دَائِرَةٍ ضَيِّقَةٍ عَنْ الْأَوَّلِينَ . وَقَدْ قَالَ فِيهِمُ
ابْنُ عَابِدِينَ : وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ رَاجِحِ الْمُخْتَلِفِ مِنْ مَرْجُوحِهِ
وَمَرَاتِبِهِ قُوَّةً وَضَعْفًا هُوَ نِهَايَةُ مَآلِ الْمُشَمِّرِينَ فِي
تَحْصِيلِ الْعِلْمِ . فَالْمَفْرُوضُ عَلَى الْمُفْتِي وَالْقَاضِي
التَّثَبُّتُ فِي الْجَوَابِ ، وَعَدَمُ الْمُجَازَفَةِ فِيهِ ، خَوْفًا
مِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْلِيلِ حَرَامِهِ
وَتَحْرِيمِ ضِدِّهِ .
وَنَرَى أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ دِرَاسَتُهَا دِرَاسَةُ جَمْعٍ
وَتَصْنِيفٍ وَتَرْتِيبٍ لِلْأَقْوَالِ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ حَيْثُ
صِحَّةُ نَقْلِهَا ، لَا مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ دَلِيلِهَا .
ب - الْمُتَّبِعُونَ :
نَقْصِدُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ غَيْرَهُمْ فِي كُلِّ مَا
يَتَعَلَّقُ بِالْمَذْهَبِ ، فَيَتَّبِعُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي
الِاجْتِهَادِ وَفِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْآرَاءِ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ ،
وَفِي التَّرْجِيحِ فِي النَّقْلِ وَفِي سَلَامَتِهِ . فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ
لَهُمْ إِلَّا فَهْمُ الْكُتُبِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّرْجِيحِ ،
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ ، وَلَمْ
يُؤْتَوْا عِلْمًا كَعِلْمِ الْمُرَجِّحِينَ فِي أَيِّ بَابٍ مِنْ
أَبْوَابِ التَّرْجِيحِ وَتَمْيِيزِ دَرَجَاتِ التَّرْجِيحِ . وَهَؤُلَاءِ
قَالَ فِيهِمُ
ابْنُ عَابِدِينَ : لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ ، وَلَا يُمَيِّزُونَ
الشِّمَالَ مِنْ الْيَمِينِ ، بَلْ يَجْمَعُونَ مَا يَجِدُونَ كَحَاطِبِ
لَيْلٍ ، فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ قَلَّدَهُمْ .
وَإِنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ قَدْ كَثُرَ فِي
الْعُصُورِ الْأَخِيرَةِ ، فَهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَارَاتِ الْكُتُبِ ،
لَا يَتَّجِهُونَ إِلَّا إِلَى الِالْتِقَاطِ مِنْهَا ، مِنْ غَيْرِ
قَصْدٍ لِتَعَرُّفِ دَلِيلِ مَا
-
ص
38
- يَلْتَقِطُونَ ، وَيَبْنُونَ عَلَيْهِ ، بَلْ يَكْتُمُونَ
بِأَنْ يَقُولُوا : هُنَاكَ قَوْلٌ بِهَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
دَلِيلٌ قَوِيٌّ .
وَلَقَدْ كَانَ لِهَذَا الْفَرِيقِ أَثَرَانِ مُخْتَلِفَانِ :
أَحَدُهُمَا خَيْرٌ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ
إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالرَّاجِحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ،
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ عَمَلُهُمْ الِاتِّبَاعُ لِهَذَا الرَّاجِحِ ، وَفِي
ذَلِكَ ضَبْطٌ لِلْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فُرُطًا .
وَتَقْيِيدُ الْقَضَاءِ فِي الْأَزْمَانِ الَّتِي تَنْحَرِفُ
فِيهَا الْأَفْكَارُ وَاجِبٌ ، بَلْ إِنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَكُونُ
حَسَنًا إِلَّا فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ .
الْأَثَرُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا فِيهِ تَقْدِيسٌ لِأَقْوَالِ
الْفُقَهَاءِ السَّابِقِينَ ، وَاعْتِبَارُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً
سَائِغَةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى قُوَّةِ الدَّلِيلِ ، وَمِقْدَارِ
صِلَةِ الْقَوْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى
صَلَاحِيَتِهِ لِلتَّطْبِيقِ ، وَقَدْ اخْتَلَطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ .
وَقَدْ كَانَ لِهَذَا أَثَرٌ فِي الْبِيئَاتِ الَّتِي تُحَاوِلُ أَنْ
تَجِدَ مُسَوِّغًا لِمَا تَفْعَلُ ، فَيُسَارِعُ الْمُرَاءُونَ
الْمُتَمَلِّقُونَ إِلَى تَبْرِيرِ أَفْعَالِ بَعْضِ ذَوِي النُّفُوذِ ،
بِذِكْرِ أَقْوَالٍ شَاذَّةٍ ، فَيَتَعَلَّقُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ بَعْضَ
الْعُلَمَاءِ أَجَازُوا مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ
أَفْعَالٍ ، أَيًّا كَانَ قَائِلُهُ وَأَيًّا كَانَتْ حُجَّتُهُ ، بَلْ
أَيًّا كَانَتْ سَلَامَةُ نَقْلِهِ أَوْ قُوَّتُهُ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي
دَوَّنَ فِي كُتُبِهِ ، ثُمَّ يَنْثُرُ هَؤُلَاءِ الْمُتَمَلِّقُونَ
ذَلِكَ نَثْرًا فِي الْمَجَالِسِ ، مُبَاهَاةً بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ .
فَالْوَيْلُ لِهَؤُلَاءِ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ قَلَّدَهُمْ ، وَالْوَيْلُ
لِمَنْ يَأْخُذُ كَلَامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ
يُشَجِّعُهُمْ .
34 - فِي عُصُورِ الِاجْتِهَادِ الْمُخْتَلِفَةِ ، سَوَاءٌ
أَكَانَ مُطْلَقًا أَمْ مُقَيَّدًا ، بَلْ وَفِي عُصُورِ التَّقْلِيدِ ،
لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ اعْتَمَدَ فِي
اسْتِنْبَاطِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى غَيْرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ،
وَلَمْ يَتَّجِهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْأَخْذِ مِنْ الْقَانُونِ
الرُّومَانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقَوَانِينِ الَّتِي كَانَتْ
سَائِدَةً فِي الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ .
وَعَلَى الَّذِينَ يُشَكِّكُونَ فِي أَنَّ فُقَهَاءَنَا قَدْ اعْتَمَدُوا عَلَى الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ فِي
-
ص
39
- اسْتِنْبَاطِهِمْ أَنْ يَدُلُّونَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ
اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ
حُكْمٌ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ فَلَيْسَ مَعْنَى
هَذَا أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ ، بَلْ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ
الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ
بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأَزْمَانِ . وَعِنْدَ النَّظَرِ فِي مَصْدَرِ
هَذِهِ الْأَحْكَامِ - إِنْ وُجِدَتْ - سَنَجِدُ أَنَّهَا مُعْتَمِدَةٌ
عَلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ
بَقَاءُ الْمَذَاهِبِ وَانْتِشَارُهَا :
35 - مِمَّا تَقَدَّمَ عَلِمْنَا أَنَّ هُنَاكَ مَذَاهِبَ انْدَثَرَتْ ،
وَأُخْرَى بَقِيَتْ وَنَمَتْ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ
إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قُوَّةِ السُّلْطَانِ وَالنُّفُوذِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ - مَرْدُودٌ - فَقَدْ يَكُونُ
لِلسُّلْطَانِ وَالنُّفُوذِ بَعْضُ الْأَثَرِ فِي بَقَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ
الْمَذَاهِبِ وَانْتِشَارِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْأَثَرَ ضَئِيلٌ ، إِذْ
إِنَّ الدَّوْلَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ - وَكَانَ نُفُوذُهَا مُمْتَدًّا عَلَى
جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ - كَانَ الْقَضَاءُ بِيَدِ
الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيِّينَ ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّنَا نَجِدُ أَنَّ
مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَتْبَاعًا فِي الشَّمَالِ
الْإِفْرِيقِيِّ أَوْ فِي
مِصْرَ إِلَّا قِلَّةً قَلِيلَةً ، بَلْ إِنَّ الْكَثْرَةَ الْكَثِيرَةَ مِنْ
بِلَادِ فَارِسَ كَانَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِهَا
يَوْمَئِذٍ ، وَكَانَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِبَّانَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ
قَاصِرًا عَلَى
الْعِرَاقِ وَبِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَبَعْضِ
بِلَادِ فَارِسَ . كَمَا أَنَّ الدَّوْلَةَ الْعُثْمَانِيَّةَ وَكَانَ سُلْطَانُهَا
يَمْتَدُّ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ مَذْهَبُهَا
الرَّسْمِيُّ هُوَ الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ ، وَكَانَ الْقَضَاءُ فِي
كُلِّ السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي عُلَمَاءِ هَذَا الْمَذْهَبِ ،
وَمَعَ هَذَا نَجِدُ أَنَّ الشَّمَالَ الْإِفْرِيقِيَّ كُلَّهُ لَا
يَنْتَشِرُ فِيهِ إِلَّا مَذْهَبُ
مَالِكٍ ، اللَّهُمَّ إِلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ فِي عَاصِمَةِ
تُونُسَ فِي بَعْضِ الْأُسَرِ الْمُنْحَدِرَةِ مِنْ أَصْلٍ تُرْكِيٍّ . وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي
مِصْرَ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ وَمِنْهُمْ الْمَالِكِيُّونَ فِي
صَعِيدِ مِصْرَ أَوْ فِي
مُحَافَظَةِ الْبُحَيْرَةِ ، وَلَا نَجِدُ الْحَنَفِيِّينَ إِلَّا قِلَّةً قَلِيلَةً مُنْحَدِرَةً
مِنْ أَصْلٍ تُرْكِيٍّ أَوْ شَرْكَسِيٍّ أَوْ تَمَذْهَبَ بِهَذَا
الْمَذْهَبِ طَمَعًا فِي تَوَلِّي الْقَضَاءِ . . . وَإِنْ كَانَتْ
حَلَقَاتُ الدِّرَاسَةِ فِي الْأَزْهَرِ عَامِرَةً بِطُلَّابِ هَذَا
الْمَذْهَبِ ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ إِمَّا شَافِعِيُّونَ أَوْ
مَالِكِيُّونَ ، فَأَيْنَ تَأْثِيرُ السُّلْطَانِ فِي فَرْضِ مَذْهَبٍ
خَاصٍّ ؟ .
-
ص
40
- وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي
شِبْهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنَاطِقِ
الْخَلِيجِ ، فَقَدْ كَانَتْ كُلُّهَا تَابِعَةً لِلدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ ،
وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْمُنْتَشِرَةَ فِي هَذِهِ
الْمَنَاطِقِ هِيَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ، وَرُبَّمَا
الشَّافِعِيَّةِ ، وَلَا وُجُودَ لِمُعْتَنِقِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ
إِلَّا شِرْذِمَةً قَلِيلَةً .
وَالْحَقُّ أَنَّ بَقَاءَ مَذْهَبٍ مَا أَوِ انْتِشَارَهُ يَعْتَمِدُ -
أَوَّلًا وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ - عَلَى ثِقَةِ النَّاسِ بِصَاحِبِ
الْمَذْهَبِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ إِلَيْهِ ، وَعَلَى قُوَّةِ أَصْحَابِهِ
وَدَأْبِهِمْ عَلَى نَشْرِهِ وَتَحْقِيقِ مَسَائِلِهِ وَتَيْسِيرِ فَهْمِ
هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِحُسْنِ عَرْضِهَا .
التَّقْلِيدُ :
36 - يُبَالِغُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الطَّعْنِ عَلَى مَنْ قَلَّدَ
عَالِمًا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ ، وَرُبَّمَا شَبَّهَ
بَعْضُهُمْ الْمُقَلِّدِينَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ : (
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ )
وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْمَسَائِلِ
الْأَسَاسِيَّةِ فِي الدِّينِ ، وَهِيَ الْمَعْلُومَةُ مِنْ الدِّينِ
بِالضَّرُورَةِ لَا تَقْلِيدَ فِيهَا لِعَالِمٍ ، مَهْمَا كَانَتْ
مَكَانَتُهُ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنِ اقْتِنَاعٍ تَامٍّ بِثُبُوتِهَا عَنْ
صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَوْ بِصِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ . أَمَّا الْمَسَائِلُ
الْفَرْعِيَّةُ الَّتِي تَتَطَلَّبُ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ
التَّفْصِيلِيَّةِ فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْعَامَّةِ بِالنَّظَرِ فِي
الْأَدِلَّةِ تَكْلِيفٌ شَاقٌّ لَا تَسْتَقِيمُ مَعَهُ الْحَيَاةُ ، إِذْ
لَوْ كَلَّفْنَا كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ
نَظْرَةَ الْمُجْتَهِدِ فَإِنَّ الصِّنَاعَاتِ سَتَتَعَطَّلُ ، وَمَصَالِحَ
النَّاسِ سَتُهْمَلُ . وَمَا لَنَا نُطِيلُ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ
وَسَلَفُ الْأُمَّةِ - وَهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ كَمَا شَهِدَ لَهُمْ
الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ
مُجْتَهِدِينَ ، بَلْ كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ قِلَّةً قَلِيلَةً ، وَكَانَ
الْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ شَخْصًا .
عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْتَهِدَ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَجْتَهِدَ مَتَى تَوَفَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُهُ وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ
شُرُوطُهُ الَّتِي سَنُبَيِّنُهَا بِالتَّفْصِيلِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -
فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ لِهَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ .
-
ص
41
- وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُغَالِينَ يَقُولُ :
إِنَّهُ يَكْفِي الشَّخْصَ لِيَكُونَ مُجْتَهِدًا أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِ
مُصْحَفٌ وَسُنَنُ
أَبِي دَاوُدَ وَقَامُوسٌ لُغَوِيٌّ ، فَيُصْبِحُ بِذَلِكَ مُجْتَهِدًا لَا حَاجَةَ
لَهُ إِلَى تَقْلِيدِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَوْ
أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْمُصْحَفِ وَبِسُنَنِ
أَبِي دَاوُدَ وَالْقَامُوسِ لَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ مُجْتَهِدِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ إِمَّا
عَرَبٌ خُلَّصٌ ، أَوْ نَشَأُوا فِي بِيئَةٍ عَرَبِيَّةٍ خَالِصَةٍ ،
وَشَاهَدُوا أَحْدَاثَ التَّنْزِيلِ ، وَقَرِيبُو عَهْدٍ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ الِادِّعَاءُ يُكَذِّبُهُ
الْوَاقِعُ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَقْلِيدَ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُمُورِ
الظَّنِّيَّةِ شِرْكٌ وَتَأْلِيهٌ لَهُمْ ، قَوْلٌ لَا أَصْلَ لَهُ ،
فَلَيْسَ هُنَاكَ أُمِّيٌّ - فَضْلًا عَنْ مُتَعَلِّمٍ - يَرَى أَنَّ
لِلْأَئِمَّةِ حَقَّ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ
خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، بَلْ كُلُّ مَا يُعْتَقَدُ
فِيهُمْ أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ أَوْ ذَاكَ مَوْثُوقٌ بِعِلْمِهِ مَوْثُوقٌ
بِدِينِهِ أَمِينٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ . وَمِنْ
الْعَجَبِ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ
وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُحْسِنُ أَحَدُهُمْ أَنْ
يَقْرَأَ آيَةً صَحِيحَةً مِنْ الْمُصْحَفِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَسْتَنْبِطَ مِنْهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا ، فَأَقَلُّ مَا يَجِبُ أَنْ
يَتَّصِفَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّقًا فِي اللُّغَةِ
الْعَرَبِيَّةِ ، عَالِمًا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ، وَالْعَامِّ
وَالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
يَتَطَلَّبُ إِعْدَادًا خَاصًّا لَا يَتَوَفَّرُ إِلَّا لِلْقِلَّةِ
الْقَلِيلَةِ الْمُتَفَرِّغَةِ .
37 - وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمُسْلِمُ
أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَلْتَزِمَ الشَّخْصُ مَذْهَبًا
خَاصًّا فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ ، بَلْ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ
نَازِلَةٌ أَوْ عَرَضَتْ لَهُ مُشْكِلَةٌ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْتَمِسَ
الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ مِنْ شَخْصٍ مَوْثُوقٍ بِعِلْمِهِ مَوْثُوقٍ
بِدِينِهِ ، يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ . وَهَذَا فِي غَيْرِ
الْمَسَائِلِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا
يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلٌ لِقَائِلٍ غَيْرَ مَا عُرِفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ . فَمَهْمَا أَفْتَى بَعْضُ النَّاسِ بِحِلِّ
الرِّبَا أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ ، أَوْ تَرْكِ الصَّلَاةِ
وَالِاسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بِالصَّدَقَةِ مَثَلًا ، فَلَا يَقْبَلُ
قَوْلَهُ ، وَلَا تَكُونُ فَتْوَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ عُذْرًا يُعْتَذَرُ
بِهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى