عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ :
28 - هَذَا الْعِلْمُ وُلِدَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي الْهِجْرِيِّ ،
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ
هَذَا الْعِلْمَ
-
[ عِلْم أُصُول الْفِقْه ]
-
هُوَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَذَهَبَ
ابْنُ النَّدِيمِ فِي " الْفِهْرِسْتِ " أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَلَّفَ فِيهِ هُوَ
أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ
أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ أَقْدَمَ مُؤَلَّفٍ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَصَلَ إِلَيْنَا هُوَ رِسَالَةُ
الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَهَذَا الْعِلْمُ قَدْ بَيَّنَ الْقَوَاعِدَ
الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَلْتَزِمَهَا فِي اسْتِنْبَاطِهِ
لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ مِنْ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ
أَوِ الْقِيَاسِ . وَقَدْ وَضَعَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ لِيُبَيِّنَ
مِنْهَاجَهُ فِي الِاجْتِهَادِ . وَكَأَيِّ عِلْمٍ أَوْ كَائِنٍ حَيٍّ
يُولَدُ صَغِيرًا ثُمَّ يَكْبَرُ ، فَهَذَا الْعِلْمُ قَدْ أَخَذَ
أَطْوَارًا ، وَأُدْخِلَتْ فِيهِ مَبَاحِثُ مِنْ عُلُومٍ أُخْرَى رَأَى
الْمُؤَلِّفُونَ فِيهِ أَنَّ لَهَا صِلَةً بِالِاجْتِهَادِ . بَلْ أَكْثَرُ
مِنْ هَذَا فَقَدْ تَنَاوَلَ هَذَا الْعِلْمُ مَبَاحِثَ نَظَرِيَّةً
بَحْتَةً .
وَقَدْ تَقَلَّبَ هَذَا الْعِلْمُ مَا بَيْنَ مَوْسُوعَاتٍ
وَمُخْتَصَرَاتٍ ، سَنَتَنَاوَلُ - بِإِذْنِ اللَّهِ - بَيَانَهَا
بِالتَّفْصِيلِ عِنْدَمَا نُقَدِّمُ الْمُلْحَقَ الْخَاصَّ بِعِلْمِ
أُصُولِ الْفِقْهِ .
29 - وَلَا يَظُنَّنَّ ظَانٌّ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَبْلَ تَدْوِينِ
هَذَا الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى قَوَاعِدَ مُلْتَزَمَةٍ ،
بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ ، فَقَدْ كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ عَهْدِ
الصَّحَابَةِ إِلَى عَهْدِ تَدْوِينِ أُصُولِ الْفِقْهِ يَلْتَزِمُونَ
قَوَاعِدَ ثَابِتَةً ، وَإِنْ اخْتَلَفَ رَأْيُ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ فِي
بَعْضِ الْقَوَاعِدِ فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى
تَحَرِّي الصَّوَابِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ ، وَالِابْتِعَادِ عَنْ تَحْكِيمِ
الْهَوَى وَالْقَوْلِ بِالتَّشَهِّي فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
نَعَمْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ مُدَوَّنَةً ، وَإِنْ كَانَتْ
مُلْتَزَمَةً ، كَشَأْنِ عِلْمِ النَّحْوِ مَثَلًا ، فَقَدْ كَانَ
الْعَرَبُ قَبْلَ تَدْوِينِهِ يَلْتَزِمُونَ رَفْعَ الْفَاعِلِ وَنَصْبَ
الْمَفْعُولِ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَزِمُوا تِلْكَ
الْمُصْطَلَحَاتِ الْعِلْمِيَّةَ .
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَدْوِينَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ
جَاءَ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَدْوِينِ الْفِقْهِ ، وَإِنْ كَانَا - مِنْ
حَيْثُ الْوُجُودُ - مُتَعَاصِرَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ .
-
ص
34
- 30 - وَفِي هَذَا الْعَهْدِ - أَيْضًا - ظَهَرَ الْفِقْهُ
الِافْتِرَاضِيُّ ( التَّقْدِيرِيُّ ) وَقَدْ عَظُمَ هَذَا اللَّوْنُ مِنْ
الْفِقْهِ فِي مَدْرَسَةِ
الْعِرَاقِ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ
أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَلَامِيذِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَايَدَ
الِاشْتِغَالُ بِهَذَا الْفَنِّ فِي عَهْدِهِمْ وَعَهْدِ تَلَامِيذِهِمْ .
وَكَانَ الْفُقَهَاءُ - أَمَامَ هَذَا اللَّوْنِ مِنْ الْفِقْهِ - عَلَى
ضَرْبَيْنِ : كَارِهُونَ لَهُ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ غَيْرُ مُجْدٍ ،
وَقَدْ يَجُرُّ إِلَى الْجَدَلِ الْمُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ .
وَآخَرُونَ يُؤَيِّدُونَهُ وَيَقُولُونَ : إِنَّمَا نَعُدُّ لِكُلِّ
حَادِثَةٍ حُكْمَهَا حَتَّى إِذَا وَقَعَتْ لَا نَتَحَيَّرُ فِي مَعْرِفَةِ
هَذَا الْحُكْمِ . وَلِكُلِّ رَأْيٍ وُجْهَتُهُ وَوَجَاهَتُهُ . وَلَسْنَا
بِصَدَدِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ ، وَإِنْ كُنَّا نَرَى
أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي هَذَا اللَّوْنِ مِنْ الْفِقْهِ بِافْتِرَاضِ
مَسَائِلَ مُسْتَحِيلَةِ الْوُقُوعِ عَادَةً اشْتِغَالٌ بِمَا لَا
يُجْدِي وَعَبَثٌ ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْعَابِثِينَ . وَأَمَّا
افْتِرَاضُ مَسَائِلَ مُمْكِنَةِ الْوُقُوعِ وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ فَلَا
بَأْسَ بِهِ ، فَقَدْ رَأَيْنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مَسَائِلَ
مَنْثُورَةً كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يَرَوْنَهَا مُسْتَحِيلَةً الْوُقُوعِ
قَدْ وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ ، كَانْقِلَابِ الْجِنْسِ مِنْ الذُّكُورَةِ
إِلَى الْأُنُوثَةِ وَبِالْعَكْسِ ، وَكَمَسَائِلِ التَّلْقِيحِ
الصِّنَاعِيِّ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَقْلِ الْأَعْضَاءِ مِنْ
الْمَوْتَى إِلَى الْأَحْيَاءِ ، أَوْ مِنْ الْأَحْيَاءِ بَعْضِهِمْ
لِبَعْضٍ ، فَإِنَّ الْفِقْهَ الِافْتِرَاضِيَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ
الْمَسَائِلِ فَتَحَ لَنَا بَابًا كَانَ يَصْعُبُ عَلَيْنَا أَنْ نَلِجَهُ .
وَقَدْ مَهَّدَ الْفُقَهَاءُ الْقُدَامَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَنَا
طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا .