الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْفِقْهِ الْوَضْعِيِّ :
11 - يَقُولُ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلْفِقْهِ الْوَضْعِيِّ : إِنَّ
الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ مَا هُوَ إِلَّا آرَاءٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ
وَلَا يُعْتَبَرُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ خُرُوجًا عَلَى الشَّرِيعَةِ ، كَمَا
يَقُولُونَ : إِنَّ الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ لَمْ يُعَالِجْ مَشَاكِلَ
الْعَصْرِ وَمَا جَدَّ مِنْ أَحْدَاثٍ . بَلْ يَتَجَرَّأُ الْبَعْضُ
وَيَقُولُ : إِنَّهُ أَصْبَحَ تَارِيخًا ، كَتَشْرِيعِ
الْآشُورِيِّينَ وَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ .
وَنَقُولُ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ - : إِنَّ الْفِقْهَ
الْإِسْلَامِيَّ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعَةَ آرَاءٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ،
إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآرَاءَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُعْتَمِدَةً عَلَى
نَصٍّ شَرْعِيٍّ مِنْ
-
ص
21
- كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّ الْآرَاءَ الْمُعْتَمِدَةَ عَلَى
الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُسَانِدَةِ
لَا بُدَّ أَنْ تَرْجِعَ - أَخِيرًا - إِلَى كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ
رَسُولِهِ . فَالْإِجْمَاعُ - مَثَلًا - لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
سَنَدٌ مِنْ نَصٍّ قُرْآنِيٍّ أَوْ سُنَّةٍ مَقْبُولَةٍ ، وَهُوَ مَا
يُعْرَفُ عِنْدَهُمْ بِسَنَدِ الْإِجْمَاعِ . وَقَدْ يَكُونُ هَذَا
السَّنَدُ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ ، وَلَكِنَّ اجْتِمَاعَ آرَاءِ
الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ يَرْفَعُهُ مِنَ الظَّنِّيَّةِ
إِلَى الْقَطْعِيَّةِ . وَالْأَحْكَامُ النَّابِعَةُ مِنَ الْقِيَاسِ لَا
بُدَّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ ؛
لِأَنَّ الْقِيَاسَ - كَمَا عَرَّفُوهُ - هُوَ إِلْحَاقُ مَسْأَلَةٍ
لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ
لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، لِجَامِعٍ بَيْنَهَا ، وَهَذَا
الْجَامِعُ هُوَ الْعِلَّةُ ، كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا إِنْ
شَاءَ اللَّهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ ، وَالْمَسَائِلُ الَّتِي
بُنِيَتْ عَلَى الِاسْتِصْلَاحِ ، وَهِيَ مَا تُعْرَفُ بِالْمَصَالِحِ
الْمُرْسَلَةِ ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ لَمْ
يُلْغِهَا الشَّارِعُ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَبِرَهَا الشَّارِعُ
وَلَوْ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي
كُلِّ حُكْمٍ .
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ وَجْهَ الْقَدَاسَةِ فِي
الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَصَادِرِهِ ، وَلِذَا
رَأَيْنَا الْفُقَهَاءَ - عَلَى مَدَى الْعُصُورِ - يَرْفُضُونَ كُلَّ
رَأْيٍ لَا تَشْهَدُ لَهُ الشَّرِيعَةُ مَهْمَا كَانَ قَائِلُهُ ، فَأَيْنَ
هَذَا مِنَ الْفِقْهِ الْوَضْعِيِّ الَّذِي بُنِيَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِهِ
عَلَى الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ وَتَرْضِيَةِ أَصْحَابِ النُّفُوذِ ،
وَالَّذِي يَلْبَسُ فِي كُلِّ حِينٍ لِبَاسًا جَدِيدًا .
أَمَّا دَعْوَى أَنَّ الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ لَمْ يُعَالِجْ
مَشَاكِلَ الْعَصْرِ فَهَذِهِ دَعْوَى كَذَّبَهَا التَّارِيخُ ، لِأَنَّ
هَذَا الْفِقْهَ حَكَمَتْ بِهِ دُوَلٌ وَشُعُوبٌ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَدَى
ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا ، فَكَانَ فِيهِ لِكُلِّ مُشْكِلَةٍ حَلٌّ ،
حَتَّى فِي عَهْدِ التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ ، فَقَدْ رَأَيْنَا فِي كُلِّ
عَصْرٍ مُفْتِينَ وَعُلَمَاءَ وَجَدُوا فِي هَذَا الْفِقْهِ حَلًّا
لِمَشَاكِلِ هَذِهِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ .
وَلَوْلَا إِبْعَادُ هَذَا الْفِقْهِ - عَنْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ -
عَنْ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَوَجَدْنَاهُ مُسَايِرًا
لِكُلِّ عَصْرٍ ، حَلَّالًا لِكُلِّ مُشْكِلَةٍ ، فَإِنَّ الْفِقْهَ
كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
الْفَرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ
التَّفْصِيلِيَّةِ . فَهَذَا
-
ص
22
- التَّعْرِيفُ يُوحِي بِأَنَّ لِكُلِّ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ
حُكْمًا شَرْعِيًّا ، سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالْعِبَادَاتِ أَوِ
الْمُعَامَلَاتِ أَوْ أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ أَوِ الْقَضَاءِ أَوِ
السِّلْمِ أَوِ الْحَرْبِ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ هَذَا الْفِقْهَ
عَاجِزٌ عَنْ عِلَاجِ مَشَاكِلِ الْمُجْتَمَعِ الْجَدِيدِ . فَلَيْسَ
الْعَيْبُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ ، إِنَّمَا الْعَيْبُ فِي عَدَمِ
تَطْبِيقِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْفِقْهَ
الْإِسْلَامِيَّ قَاصِرٌ عَنْ مُجَارَاةِ مَشَاكِلِ الْعَصْرِ ، أَنَّهُ
لَا يَسْتَجِيبُ لِلْأَهْوَاءِ الْجَامِحَةِ ، فَنَحْنُ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ
الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ
بِهِ أُمَّةً تَسِيرُ عَلَى الْجَادَّةِ الْوَاضِحَةِ وَالْمَحَجَّةِ
الْبَيْضَاءِ ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا ، لَا أَنْ يَكُونَ مَطِيَّةً
لِذَوِي الْأَهْوَاءِ ، يُحِلُّونَ هَذَا الشَّيْءَ حِينًا
وَيُحَرِّمُونَهُ حِينًا .
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ قَدْ أَصْبَحَ
تَارِيخًا ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعَبِّرُ بِهِ قَائِلُهُ إِلَّا عَنْ
هَوًى فِي نَفْسِهِ . وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُخْلِفٌ
ظَنَّهُ ، فَقَدْ رَأَيْنَا الْكَثْرَةَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الشُّعُوبِ
الْإِسْلَامِيَّةِ تُنَادِي بِوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ
الْمُتَمَثِّلَةِ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ . وَالَّذِي سَيُصْبِحُ
تَارِيخًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - هُوَ الْفِقْهُ الْوَضْعِيُّ الَّذِي
لَمْ يَطُلْ أَمَدُهُ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَّا قَرْنًا
أَوْ أَقَلَّ مِنْ قَرْنٍ ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ضَاقَتْ بِهِ النُّفُوسُ ،
وَلَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ إِلَّا شِرْذِمَةٌ تَرَى أَنَّ
حَيَاتَهَا مُرْتَبِطَةٌ بِحَيَاتِهِ ، وَسَعَةَ أَرْزَاقِهَا مَنُوطَةٌ
بِبَقَائِهِ . وَلَكِنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُ دِينَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ .
12 - هُنَاكَ فَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْنَ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ
وَالْفِقْهِ الْوَضْعِيِّ ، فَإِنَّ الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ يَرْبِطُ
دَائِمًا بَيْنَ الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ .
فَلَيْسَ مَعْنَى انْفِلَاتِ الشَّخْصِ مِنَ الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ
انْفِلَاتَهُ مِنْ الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ . وَفِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِي
الْفِقْهِ نَجِدُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَكَلَّمُوا عَلَى الْحُكْمِ
التَّكْلِيفِيِّ لِهَذَا الْأَمْرِ أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ ؟ أَفَرْضٌ
هُوَ أَمْ مَنْدُوبٌ ؟ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى أَحْكَامِهِ
الْوَضْعِيَّةِ أَصَحِيحٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ صَحِيحٍ ؟ أَنَافِذٌ هَذَا
التَّصَرُّفُ أَمْ غَيْرُ نَافِذٍ ؟ وَلِذَا رَأَيْنَا الْمُتَدَيِّنِينَ
لَا يَهُمُّهُمْ أَنْ يَكْسِبُوا قَضِيَّةً أَمَامَ الْقَضَاءِ إِلَّا
إِذَا ارْتَاحَتْ ضَمَائِرُهُمْ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ
لَهُمُ الْقَضَاءُ حَقٌّ مَشْرُوعٌ ، بَيْنَمَا الْمُشْتَغِلُونَ
بِالْفِقْهِ الْوَضْعِيِّ لَا يَهُمُّهُمْ إِلَّا الْحُكْمُ
-
ص
23
- الدُّنْيَوِيُّ حَتَّى وَلَوْ رَفَضَهُ الشَّرْعُ ،
وَلِذَا يَتَفَنَّنُونَ فِي الْحِيَلِ الَّتِي يَكْسِبُونَ بِهَا هَذَا
الْحَقَّ الدُّنْيَوِيَّ .