الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ
-
[ تَعْرِيفُهُ ]
-
تَعْرِيفُ الْفِقْهِ لُغَةً : 1 - الْفِقْهُ لُغَةً : الْفَهْمُ مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ مَا ظَهَرَ أَوْ
خَفِيَ . وَهَذَا ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْقَامُوسِ وَالْمِصْبَاحِ
الْمُنِيرِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى -
حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ
شُعَيْبٍ - : (
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) فَالْآيَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى نَفْيِ الْفَهْمِ مُطْلَقًا .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْفِقْهَ لُغَةً هُوَ فَهْمُ
الشَّيْءِ الدَّقِيقِ ، يُقَالُ : فَقِهْتُ كَلَامَكَ ، أَيْ مَا يَرْمِي
إِلَيْهِ مِنْ أَغْرَاضٍ وَأَسْرَارٍ ، وَلَا يُقَالُ : فَقِهْتُ
السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ . وَالْمُتَتَبِّعُ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
يُدْرِكُ أَنَّ لَفْظَ الْفِقْهِ لَا يَأْتِي إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى
إِدْرَاكِ
-
ص
12
- الشَّيْءِ الدَّقِيقِ ، كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى : (
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ )
وَأَمَّا الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ فَلَيْسَ الْمَنْفِيُّ فِيهِمَا
مُطْلَقَ الْفَهْمِ ، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِ قَوْمِ
شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إدْرَاكُ أَسْرَارِ دَعْوَتِهِ ، وَإِلَّا
فَهُمْ فَاهِمُونَ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ ، وَالْمَنْفِيُّ فِي آيَةِ
الْإِسْرَاءِ إِدْرَاكُ أَسْرَارِ تَسْبِيحِ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى
، وَإِلَّا فَإِنَّ أَبْسَطَ الْعُقُولِ تُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللَّهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ؛ لِأَنَّهَا
مُسَخَّرَةٌ لَهُ . وَأَيًّا مَا كَانَ فَالَّذِي يَعْنِينَا إِنَّمَا هُوَ
مَعْنَى الْفِقْهِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ ؛
لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَّصِلُ بِبَحْثِنَا .
تَعْرِيفُ الْفِقْهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ :
2 - الْفِقْهُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ أَخَذَ أَطْوَارًا ثَلَاثَةً :
الطَّوْرُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْفِقْهَ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ الشَّرْعِ ،
فَهُوَ مَعْرِفَةُ كُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ،
سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالْعَقِيدَةِ أَوِ الْأَخْلَاقِ أَوْ أَفْعَالِ
الْجَوَارِحِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا عَرَّفَهُ
الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " هُوَ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا
وَمَا عَلَيْهَا " . وَلِهَذَا سَمَّى كِتَابَهُ فِي الْعَقَائِدِ : "
الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ " . الطَّوْرُ الثَّانِي : وَقَدْ دَخَلَهُ بَعْضُ
التَّخْصِيصِ ، فَاسْتُبْعِدَ عِلْمُ الْعَقَائِدِ ، وَجُعِلَ عِلْمًا
مُسْتَقِلًّا سُمِّيَ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ أَوْ عِلْمِ الْكَلَامِ أَوْ
عِلْمِ الْعَقَائِدِ . وَعُرِفَ الْفِقْهُ فِي هَذَا الطَّوْرِ بِأَنَّهُ
الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَمَدَّةِ
مِنَ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ .
وَالْمُرَادُ بِالْفَرْعِيَّةِ مَا سِوَى الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ
الْعَقَائِدُ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ ، وَالَّتِي
يَنْبَنِي عَلَيْهَا كُلُّ شَيْءٍ . وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَتَنَاوَلُ
الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ الَّتِي تَتَّصِلُ بِأَفْعَالِ
الْجَوَارِحِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ
الْفَرْعِيَّةَ الْقَلْبِيَّةَ كَحُرْمَةِ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ
وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ ، وَكَحِلِّ التَّوَاضُعِ وَحُبِّ الْخَيْرِ
لِلْغَيْرِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَّصِلُ
بِالْأَخْلَاقِ .
الطَّوْرُ الثَّالِثُ : - وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْعُلَمَاءِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا - أَنَّ
-
ص
13
- الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
الْفَرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ الْأَدِلَّةِ
التَّفْصِيلِيَّةِ . وَعَلَى هَذَا فَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ
الْفَرْعِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَعْمَالِ الْقَلْبِ أُفْرِدَ لَهَا
عِلْمٌ خَاصٌّ عُرِفَ بِاسْمِ عِلْمِ التَّصَوُّفِ أَوِ الْأَخْلَاقِ .
3 - يَتَّضِحُ مِنَ التَّعْرِيفِ الْأَخِيرِ أُمُورٌ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَهِيَ :
أ - أَنَّ الْعِلْمَ بِالذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ لَيْسَ فِقْهًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِلْمًا بِالْأَحْكَامِ .
ب - وَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ
وَاللُّغَوِيَّةِ وَالْوَضْعِيَّةِ ( أَيِ الَّتِي تَوَاضَعَ أَهْلُ كُلِّ
عِلْمٍ أَوْ فَنٍّ عَلَيْهَا ) لَيْسَ فِقْهًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا
لَيْسَتْ عِلْمًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
ج - وَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ
الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ ، أَوِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ
الْقَلْبِيَّةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، كَحُرْمَةِ
الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَوُجُوبِ مَحَبَّةِ
الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ - لَيْسَتْ مِنَ الْفِقْهِ فِي اصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ ،
وَكَذَا الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَشْتَمِلُ
عَلَيْهَا عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ كَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ
الْآحَادِ ، أَوْ وُجُوبِ التَّقَيُّدِ بِالْقِيَاسِ ، إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ . وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مِنَ الْفِقْهِ لِأَنَّهَا
لَيْسَتْ أَحْكَامًا عَمَلِيَّةً ، بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ عِلْمِيَّةٌ
قَلْبِيَّةٌ أَوْ أُصُولِيَّةٌ .
د - وَعِلْمُ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَا طَرِيقُهُ الْوَحْيُ ، لَيْسَ فِقْهًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُسْتَفَادٍ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، بَلْ بِطَرِيقِ
الْكَشْفِ وَالْوَحْيِ . أَمَّا عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ
يُسَمَّى اجْتِهَادًا .
هـ - وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكُلِّ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ
بِالضَّرُورَةِ ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ
وَالْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ ، وَكَحُرْمَةِ الرِّبَا وَالزِّنَى
وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، لَيْسَ فِقْهًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
حَاصِلٍ بِالِاسْتِنْبَاطِ بَلْ بِالضَّرُورَةِ ، بِدَلِيلِ حُصُولِهِ
لِلْعَوَامِّ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ وَكُلِّ مَنْ
نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ
الْأَحْكَامُ مِنْ قَبِيلِ عِلْمِ الْعَقَائِدِ ؛ لِأَنَّ مَنْ
أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ .
-
ص
14
- و - وَلَيْسَ مِنَ الْفِقْهِ كَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْعُلَمَاءِ
لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ
بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ ، كَمَعْرِفَةِ الْحَنَفِيِّ فَرْضِيَّةَ
مَسْحِ رُبُعِ الرَّأْسِ ، وَوُجُوبَ صَلَاةِ الْوِتْرِ وَالْعِيدَيْنِ ،
وَكَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِسَيَلَانِ الدَّمِ وَالْقَيْحِ عَنْ مَحَلِّهِمَا ،
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَكَمَعْرِفَةِ الشَّافِعِيِّ
جَوَازَ الِاكْتِفَاءِ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ ،
وَكَمَعْرِفَتِهِ أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْقَضُ بِمَسِّ الْمَرْأَةِ الَّتِي
تَحِلُّ لَهُ مُطْلَقًا ، وَكَعِلْمِهِ بِوُجُوبِ الْوَلِيِّ
وَالشَّاهِدَيْنِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ
مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ . فَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَاصِلَةٌ
عِنْدَ الْمُتَفَقِّهِينَ ، لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَإِنَّمَا
بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ .
ز - وَمِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ نَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ الْفَقِيهِ لَا
يُطْلَقُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مَهْمَا كَانَ
عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَإِحَاطَتِهِ بِفُرُوعِهِ ، بَلِ
الْفَقِيهُ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ
وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ الْأَحْكَامَ مِنْ أَدِلَّتِهَا
التَّفْصِيلِيَّةِ . وَلَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا
بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ
مَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَئِمَّةِ
الْمَعْرُوفِينَ تَوَقَّفُوا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ، إِمَّا لِتَعَارُضِ
الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ تَعَارُضًا يَصْعُبُ مَعَهُ تَرْجِيحُ دَلِيلٍ
عَلَى دَلِيلٍ ، أَوْ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِمْ أَدِلَّةٌ عَلَى هَذِهِ
الْمَسَائِلِ الَّتِي تَوَقَّفُوا فِيهَا .